استهل الاجتماع السنوي للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا الذي يعقد, الإثنين، بقراءة وتحليل التغيرات السياسية التي طرأت خلال عام 2023، إذ ورد في التقرير السياسي للاجتماع: شهد العام 2023 العديد من الأحداث الهامة على مستوى العالم والتي كانت نتيجة طبيعية لتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا والتي أنذرت وقت اندلاعها بطول فترتها وأنها نقطة البداية فقط لجملة من الأحداث والتطورات التي سيشهدها العالم بهدف إعادة صياغة التحالفات والتغيرات المحتملة في النظام العالمي، واليوم ثمة العديد من بؤر عدم الاستقرار في العالم ومنطقتنا في الشرق الأوسط في صلب هذه التغيرات والأزمات التي ستمتد لسنوات عدة.
الوضع السوري القائم سيستمر في حالة من الجمود السياسي لأشهر عدة، لكن وجود القوات الأجنبية في سوريا عامةً سيمهد لاستمرار حالة عدم الاستقرار، واحتمالية انفجار الوضع الأمني في أي لحظة سواء عبر عمليات تركية أو مواجهة غير مباشرة بين إيران وأمريكا، وبالطبع كل هذا سيؤثر على الحالة السياسية، فالانتهاكات التي تقوم بها الفصائل المدعومة تركياً في عفرين وسري كانيه وكري سبي المحتلة مستمرة، وتزايدت هذه الانتهاكات بعد وضع الخزانة الأمريكية فصيل العمشات والحمزات على لائحة العقوبات، وهذا كان نتيجة عمل عدد من المنظمات لسنوات وتوثيق انتهاكات هذين الفصيلين، وعليه يجب أن نركز على توثيق الانتهاكات الحاصلة هناك ووضع برامج عملية فضح السياسات التركية في الشمال السوري المحتل.
تركيا التي شهدت تغيراً في سياستها الخارجية ولاسيما بعد نجاح أردوغان في الانتخابات الرئاسية، ورغم سعيها لتطبيع علاقاتها مع غالبية الدول العربية والغربية والعودة إلى سياسة صفر مشاكل، إلا أنها استمرت في سياستها تجاه شمال وشرق سوريا والقضية الكردية عامة وهو نهج الإبادة والقضاء التام على المشروع القائم في سوريا، استثمرت تركيا علاقاتها الدولية في أوروبا ووجودها في حلف الشمال الأطلسي لحث الدول الغربية على تحجيم علاقاتها ودعمها للإدارة الذاتية وما حدث مع السويد دليل قائم على ذلك، ناهيك عن الهجمات المستمرة على مناطق الإدارة عبر المسيّرات والقصف المدفعي الشبه اليومي والهجمات الأخيرة التي قامت بها تركيا واستهدفت البنية التحتية ومراكز الطاقة والمياه والكهرباء كان استمراراً لمخطط هدم الإدارة من الداخل الذي بدأ في دير الزور وهدف إلى إضعاف القدرات الاقتصادية والخدمية للإدارة ومحاولة تأليب الشعب ضد الإدارة وبالطبع كل ذلك كان بالتنسيق مع النظام السوري وإيران وروسيا لتكون القوة المرتبطة بالنظام السوري في الأرض جاهزة للتحرك.
هذه المخططات أثّرت بشكلٍ كبير على قدرات الإدارة الاقتصادية وتسببت بمشاكل خدمية واجتماعية تظهر نتائجها حالياً في القطاع الخدمي والمحروقات وغيرها، ويجب علينا تدارك هذه النواقص والاهتمام أكثر بالوضع الداخلي وتمتين الجبهة الداخلية لنكون قادرين على الاستمرار في العمل وتوسيع علاقتنا مع الغرب والشرق على حد سواء.
في الشرق الأوسط وبالتحديد منطقنا ماتزال تداعيات ما سمي الربيع العربي الذي انطلق في 2010 حاضرة إلى اليوم وما أفرزتها من عدم الاستقرار في بعض البلدان مثل لبيبا واليمن وسوريا ولبنان، وترابطها مع بعضها البعض وتأثيرها على مستقبل المنطقة مرتبط مباشرة مع سير الأحداث في باقي بقاع العالم، اليوم باتت الأوضاع السياسية والأمنية أكثر تشابك مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي ستكون لها تأثيرات مباشرة على الشرق الأوسط عامة سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
بدأ العام الحالي بالحديث حول مبادرة أردنية بالتنسيق مع الأمم المتحدة لوضع أساس الحل السياسي في سوريا عبر إعطاء دور محوري للدول العربية، المملكة الأردنية الهاشمية بدأت بطرح المبادرة العربية التي ركزت على الوضع الإنساني وإعادة النازحين كخطوة أولى وإيقاف تهريب المخدرات والإتجار بها من سوريا إلى دول الجوار إضافة لخطوات سياسية متتالية، الجهود الأردنية هذه وصلت لنتائج ملموسة خلال الربع الأول من العام 2023، وتم إشراك دول عربية أخرى هامة في هذه المبادرة مثل الإمارات التي طبعت علاقاتها مع النظام السوري قبل عامين والسعودية ومصر والعراق، وتم وضع خطة عمل محددة بالتنسيق المباشر مع الأمم المتحدة والمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون وبالتأكيد تم كل ذلك بموافقة أمريكية غير معلنة بهدف جر النظام السوري إلى نفق التسوية السياسية وفقاً للقرار 2254 الذي يفضي بنهاية النفق لتسليم السلطة إلى السوريين.
عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية بلا شك يمثل مكسباً سياسياً هاماً للنظام السوري، لكن بالمقابل وبعد ستة أشهر من القمة العربية الأخيرة وتشكيل اللجنة الوزارية العربية الخاصة بسوريا، لم يقدم النظام السوري أي بوادر حسن نية لتنفيذ البنود المتفق عليها في اجتماع عمان، وعلى رأسها مكافحة تجارة المخدرات وعودة اللاجئين السوريين من لبنان والأردن إلى سوريا، وهذا الأمر وضع مصداقية النظام السوري الذي ربط عودة اللاجئين بملف إعادة الإعمار على الطاولة العربية وتم تجميد المبادرة فعلياً من جديد إلا أن المسار العربي ما يزال مطروحاً وفق تنسيق مباشر بين الأردن والمبعوث الأممي لسوريا، تجميد المبادرة سيكون له آثار سلبية كبيرة على النظام السوري داخلياً وخارجياً، ومع تفاقم الوضع الاقتصادي وتدهوره وقطع منظمة الأغذية العالمية كافة أنواع دعمها عن سوريا مع بداية العام 2024 ستزداد الأزمة الاقتصادية وترتفع معها معدلات الفقر والهجرة من سوريا عامةً وهذه مؤشرات على أن سوريا وبالتحديد مناطق سيطرة النظام السوري تتجه إلى حالة من التدهور المعيشي والاقتصادي وستكون لها تداعيات مباشرة في ميدان السياسة.
في المسار الآخر فقدت المعارضة السورية المدعومة تركياً أوراق هامة من يدها، إذ لم تحرز اللجنة الدستورية أي تقدم أو خرق في مسار المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة بين النظام السوري والمعارضة، كما أنّ ما يسمى بالائتلاف السوري المعارض المدعوم من تركيا فقد الدعم الغربي والدولي له جزئياً نتيجة ارتباطه العضوي مع تركيا وبرز هذا الأمر خلال الزلزال الذي ضرب كلاً من سوريا وتركيا في شباط، إذ لم تتعامل الدول الغربية والعربية بشكلٍ مباشر مع قادة المعارضة لتمرير المساعدات للمناطق السوري المنكوبة بل تم كل ذلك عبر تركيا والبعض منها عبر النظام السوري اللتين استثمرتا هذه المساعدات لممارسة نوع من الدبلوماسية الإنسانية أو دبلوماسية الكوارث لتنظيم علاقاتهما مع بعض الدول ولا سميا العربية منها، واكتسب النظام السوري دفعة دبلوماسية هامة خلال هذه الكارثة، التي كان لها الفضل في عودة الاتصالات بين مصر وسوريا والسعودية والجزائر وتونس، وفي الجانب الأخر استفادت تركيا هي الأخرى من الزلزال المدمر سياسياً إذ رممت علاقاتها مع اليونان والسعودية ومصر وبعض البلدان الأخرى التي كانت تعاني فتوراً في علاقتها الدبلوماسية.
التطورات السياسية والدبلوماسية في المحيط الإقليمي لسوريا، تؤثر مباشرة على الوضع السوري العام، وكون الحالة السورية المستمرة منذ اثني عشر عاماً لم يتبلور فيه الحل السياسي نتيجة التداخلات الخارجية وعقد الصفقات بين القوى المؤثرة في الشأن السوري، فإن الشعب السوري عامةً هو الذي يدفع فاتورة هذه الحرب، ويبقى مشروع الإدارة الذاتية الذي يحاول قوياً في ظل المتغيرات المستمرة والسريعة في العالم والمحيط، هو النموذج المقبول من بعض الأطراف الدولية، لكن مساعي تدمير هذا المشروع وإنهائه من قبل محور آستانا مستمر ولم ينتهى، فمسلسل الصفقات الروسية التركية التي بدأت عام 2016 لم تنتهي والعلاقة القائمة بينهما في سوريا والتي تطورت بعد الحرب الروسية الأوكرانية أظلت بظلالها سلباً على الوضع السوري، إذ ساهمت روسيا في دعم مخططات تركيا في سوريا وهيئت لها الظروف لاحتلال مناطق عدة من ضمنها عفرين وسري كانيه وفتح قنوات تواصل أمنية وسياسية مباشرة بين النظام السوري وتركيا وكانت نتائجها في شمال وشرق سوريا قاسية، إذ يحاول محور أستانا كل عام ضرب استقرار المنطقة عبر طرق متعددة، فالهجوم الذي قادته دا.عش في عام 2022 على سجن الحسكة والأحداث التي تطورت في دير الزور قبل أشهر والتنسيق بين المجاميع المدعومة تركياً وتلك المرتبطة بالنظام السوري وإيران في دير الزور ضد قوات سوريا الديمقراطية يبرز مدى عمق المخطط الهادف لتدمير الإدارة الذاتية عبر أدوات متعددة مثل دعم الإر.هاب المتمثلة بدا.عش، وكانت للمبادرة السياسة التي طرحتها الإدارة الذاتية لحل الأزمة السورية والتي انطلقت من مبادئ وطنية وتزامنت مع المبادرة العربية لدفع الحل السياسي في سوريا، سبباً جوهرياً لزيادة الهجمات على الإدارة الذاتية بشقيها السياسي والعسكري، تلك المبادرة التي حظيت باهتمامٍ سوري وبعض القوى الدولية، إلا أنها لم تترجم إلا كورقة عمل على أرض الواقع نتيجة عدم وجود أفق قريبة للحل السياسي السوري واستمرار الأطراف الإقليمية في رفض مشاركة الإدارة الذاتية في أي حل سياسي سوري.